أطول رواية في المنتدى" أطول رواية نقلتها بعنوان ـــــ الـتأليف بين طـبقات اللــيل ـــ
- أنت تعمل على تخريب اللغة، عندما لا ترى فيها سوى شجر الرماد.
- ولكن أخبرني، كيف أصبح الخوف نباتاً في الأعماق. أليس هو الآخر الذي فرض علينا تفوقه على أرض تلك البلاد؟
لم ير الماوردي غير حزمة من الأشعة، وهي تنشق عن مرآة الغرفة، لتصطدم بوجهه وتحوله إلى قطعة من السيراميك.
- طيب. ليكن وجهك هكذا على الدوام. على الأقل ، فإنه لا يصاب بتلك الارتعاشة المُفزعة، حينما تعبر فوقه الأشباح.
- والانتظار.. أليس هو أولى ممرات الإهانة، حتى لو كان روائياً؟
قلت ذلك لنفسي وأنا أدخل الليل.
كانت السنوات الطويلة التي مضت عليك في الهاهنا والهاهناك، قطيع غيوم تهرول في حقول المجهول. لكن القطرات التي تنزل من أثدائها، لم تكن إلا هذا الحبر الذي تغوص في طوفانه حياتك الثانية. فالأرض التي لديك، ليست كما تكون الأراضي. والوطن الذي تبقى فيك، ليس غير مجموعة من الذكريات.
أنه السؤال. و الماوردي لا يحبّ الأسئلة، أو الأمطار السوداء كما يحلو له أن يطلق تلك التسمية عليها.
هكذا كان يعتقد طوال سنوات عمره. فهو يفسّر العالم بالطاولة المستديرة التي يقابل شخوصها بعضهم لبعض، دون سواتر وأحجبة و خنادق وكواليس من أجل التفاوض وتقسيم المخلوق البشري إلى حصص ومقاطعات. وحتى هذه اللحظة، لم يأسف الماوردي على شيء يذكر. لا على المدرسة التي غادرها قبل أن يتعلم منها تقليم أظافره بشكل سليم. ولا على الطفولة التي سرقتها كتب المكتبة العامة مبكراً. ولا على الخدمة العسكرية، التي أنهى فيها الفترة الإلزامية لمدة 18 شهراً بارداً في الجيش. ففي ذلك الزمن، لم تكن هناك حروب ولا من يحزنون. لأن الحكم كان منهمكاً بحرب الاغتيالات السياسية وتصفيات الخصوم، تلك التي أغرقت البلاد بطوفانها الدموي منذ بداية السبعينات.
لقد كان النسيان أفضل للرأس من هطول الأفكار كالمطارق. لأنه نعمة. كما تعلّم الماوردي ذلك من أغنية سمعها عن مطربة عربية، كانت تغني في مطعم لمدينة تقع فيما وراء البحار.
"هذا أوان الذبول الاتنولوجي في العقل بعد خريف الأيديولوجيات."
جملة جميلة كان يرددها الماوردي قبل دخوله عالم السرير، لا لشيء، إنما ليقنع عيونه بالاستسلام للنوم الحضاري. فجسده كاملاً، لم يعد مستعداً لبلوغ هذه القناعة منذ سنوات طويلة. وهو إن أقنع العينين لغواية النوم وهيأت أقفالها للإغلاق، رفض الدماغ هذه الفرصة التي يرى فيها اعتداءً عليه، لأنها تجعل منه أشبه بالموظف الذي يحال على التقاعد، وهو لا يريد ذلك أبداً. لذلك لا بد من التحايل:
"اشرب يا ماوردي حتى يغرق الدماغ بمحلول الحرير الأبيض تماماً، فيسقط في جبّ النوم."
أصبح الماوردي يدرك جيداً، أن تموجات الحياة في الليل، أقرب إليه من النهار.
"الليل زخرفة، فيما النهار مأهول بالرخام الثقيل الذي يشبه الجثث."
ومن هنا كان يميل للعزلة في مكان ما من الليل. مكان لا ثقب فيه للخوف من تأليف شخوص أقوياء، لا يشبهون تماثيل الشمع اليومية التي تتحرك، وتذوب تحت حرارة الشمس بسهولة.
"على المرء أن لا يصنع شمسه من تلك المصابيح المنارة في الشوارع، أو تلك التي تقف خلف زجاج النوافذ. بل أن يبتكر لنفسه حزمة ضوء من المعرفة، على الأقل لإنارة الذات أثناء عبور المضائق الحرجة أو المُهلكة. آه. ما أتفه كلام الفلسفة هذه الأيام. أن تصنع شمساً أو بطيخاً أحمر من المعرفة وتنير الآخرين وذاتك.. أليس هذا وهماً؟"
إن الصمت الذي تخندق في أعماق الماوردي طوال السنوات الطويلة، كاد أن يأكله و يبتلع عظامه، فقد أصبح وكأنه كاتب نصوصه المنتخب على أرض التِيه. فقد اعتاد أن يقول في نفسه:
"شهرة الصمت ولا شهرة البوح. والمشي في قاعة صامتة، أفضل من الشلل على قمة تتنازعها الريح، وقد تلقي بها إلى صناديق النفايات في أية لحظة."
"أتبقى صامتاً يا ماوردي.. وقد اجتازت التماسيح ممرّ الرقبة، وامتدت اعناقها إلى نفق الأحشاء"
ظل الماوردي صامتاً كعادته. جبل لا تهزّه الريح. لكنه كان يضحك. وهو يرسم في نفسه صورة من صور أبطال الإغريق.
لم يكن للحقد من ثياب يرتديها. فالذين عاشوا زمنه، يعرفون نزعته الأرستقراطية في الصداقة والحبّ والكتابة. فقد ألحقَ الجنونَ باللغة الداخلية، لتصبح شبكة موسيقية بين الحواس. وتنكر للسياسي لصالح الفني اللامتناهي. فالفن هو النبيل المقدس على الأرض. وهو النهر الذي يمد لسانه بجرأة إلى البحار العالية.
لذلك.. وقبل أن يقتنع الماوردي بالخروج من بلاد العُلجوُم والتوجه نحو حدود الشمال. كان يعتقد بأن الكتابة مقياس الأمن الذاتي والسلامة السياسية. لا مقياساً للإبداع والعملقة. فأن تكون كاتباً أو شاعراً مشهوراً هناك ، يتعين عليك دخول السجن في بلدك، لأتفه الأسباب. أو قبول الموت في أية لحظة تختارها لك الحكومة. فمن يكتب في بلاد العُلجوُم، ليس الكاتب أو الشاعر، بل السلطة. بعقلها الأمني. لذلك، الفرار من القفص الذهني والجسدي معاً، آمر لا بدّ منه.
"أرض العُلجُوم.. تحرج الأنبياء بمظالمها. فكيف الحال بالنسبة لواحد مثلك.؟"
ليس من خيار.. إلا أن تذوب كفص الملح. فأنت لم تخلق من أجل زنزانة. ولا السباحة الحرّة في أحواض الأسيد المخصصة لمن يراد تنظيفهم من على أرض العُلجُوم. فالحكومة تريد إنتاج جيل من العبيد، لذلك لا بد من القسوة. لأنها القانون. فالمرء لا يعتبر عبداً دون سوط، كما يبدو!
تذكّر الماوردي رجلاً كان يعرفه. رجلاً وديعاً تسيطر عليه نزعة الأبهة و الفخامة. وجلّ طموحه، يقوم على فكرة شراء مقهى من مقاهي المدينة، فقط من أجل أن يعلّق صورة كبيرة له على جدار صدر المقهى. وعندما نال مراده، وافتتح المقهى، لم تمكّنه الحكومة من تعليق صورته الشخصية في المكان الذي كان يحلم به. فذلك ممنوع!
الأمر الذي دفعه لإحراق المقهى وصورته ذات يوم، ليقفل عائداً للعمل في الريف. لأن المدينة لم تحقّق له ما كان يرغب به.
"يلعن أبو المدينة الفاضلة و السلطة الفاضلة و الصور الفاضلة."
أتتذكر المشهد يا ماوردي، وأنت في مثل اللحظات العصيبة؟
لا. انسى المقهى والصورة، ولا تغرق داخل حوض الذكريات أكثر فأكثر. فلن تنفعك الآن تلك المتعة. ألا تحس بأن الخوف يملأ الجسد بدلاً من الدم. فكن حذراً. ولا تدع ذكرياتك تسرح بك في غابة الشوك. فأنت لو وقعت في الحفرة الكبيرة، سيمزقون حتى أفكارك و خيالك.
هل تنسى الشاعر الحصيري في موقف الإفلاس، يوم قرر الانتحار لعدم قدرته على تأمين سكرة الليل.. فنزل إلى ضفة النهر بهدف التخلص من الحياة، ومُنع عن فعل ذلك، لأنهم طلبوا منه أن يرمي بنفسه من على الجسر، لا أن ينتحر وفقاً لما خطط لذلك هو بنفسه! وهل تنسى ما قاله الحصيري لناصحيه آنذاك:
"اللعنة على بلد فقدنا فيه حتى حرية الانتحار؟!"
إذاً.. لا بدّ من اجتياز الحدود يا ماوردي. دع هذي البلاد لمن هم أقوى منك. وأترك نفسك للكتابة. فالبلد ستتفسخ تحت عنف طوفان الإرهاب والحروب. جرّب حظك في مكان آخر من هذه الأرض. فأرض البلد الذي ولدت عليها، كأنها رهينة لغضب الآلهة، وربما ستبقى هكذا لوقت طويل قادم. اذهب وراقب البلد من بعيد. فالذين اجتازوا الحدود، ليسوا رهائن الخوف وحده. بل لأنهم لا يرغبون الاستسلام للموت المبتذل، بعد ما أصبح الإعدام أقل عقوبة في بلد العُلجُوم!
لن تحميك قوانين وشرائع مسلّة حمورابي يا ماوردي. فالحضارة الممتدة إلى آلاف السنين، كأنها ريش عصفور تمزّقه الكلاشنكوفات التي بات يستخدمها المسؤولون في الصيد. فلا تجعل من نفسك مسخاً. ويكفيك أن تكون حياً، فيما لو استطعت اجتياز الحدود.
وفيما لو وقعت في قبضة الأمن، فستدرك كيف تكون الحضارة! الزنزانة الانفرادية التي تحشر فيها مع الحشرات. وماكينات عصر الرأس. والحزام الكهربائي الذي سيرسل فيك ملايين الاهتزازات التي تقذف حياتك بعدها كالبصقة على البلاط. هذا الفصل الأول، وسيتم قبل دفعك للاعتراف. وما لا تعرفه عن السجون الأخرى، أفضل مما لو عرفت.
كان رأس الماوردي يعمل كخلاط الفواكه. وفجأة وجد نفسه في حانة قرب جسر كان على نهر يطل منه القصر الرهيب. احتسى كأساً صغيرة من العرق الزحلاوي، وتوجه نحو محطة القطار: إلى آخر مدينة في الشمال. إنها المغامرة الأولى وربما الأخيرة يا ماوردي.
"لا ضمان لحياة ما في العُلجُوم!!"
قالها الماوردي وقلبه كمنفضة أعقاب السجائر. جمر ودخان ورماد. فيما عيناه مليئتان بدمع متجمد. إنه لا يريد لدموعه أن تفضحه أمام المسافرين، على الرغم من الليل وخفوت المصابيح في القطار الذي كان يتلوى كالأفعى في بلعومه طيلة الرحلة.
إلا أن الساعات الأخيرة من الظلام تكاد تبلغ نهايتها. والماوردي لم ينم.
فقد وضع عقرباً تحت جفنيه لئلا يفعل ذلك. فيما العجلات تهرس جسده من أخمص القدم إلى الرأس.
- ها، قد تحولت إلى سندويشة مقانق لا تشبع طفلاً يا ماوردي.
- ولكن. ماذا يضع الباعة مع المقانق لكي تكون لذيذة بهذا القدر؟
- الكاجب.
- أه، و لكن من أين لي هذا الكاجب الآن؟
مع وصول القطار إلى المحطة، شعر الماوردي بأن رأسه يختض بالكاجب. حتى أنه تحسسه بيده، خشية أن يكون الأمر كذلك فعلاً. لفّ جسده بالمعطف الثقيل الذي ليس لديه من متاع سواه، مستعداً للقفز من القطار في لحظة التوقف الأولى. إلا أن يداً أمسكت بكتفه الأيمن من الخلف.
"ها قد قذفت حياتك يا ماوردي كالبصقة على البلاط."
قالها وقد تحولت قامته إلى جذع شجرة فاحم و ملتهب، وكأن صاعقة ضربتها تواً.
- هل لك أن تمسك طفلي لأُنزل الحقيبة من على الرّف.. رجاءً؟
- أنا أمسك؟ لا أستطيع.
قالها الماوردي، وقذف بجسده إلى خارج باب القطار كالخرقة. كان يمشي ويتصبب عرقاً على الرغم من برودة الطقس، مردداً كلمات تلك المرأة:
"هل لك أن تمسك طفلي لأُنزل الحقيبة؟"
"ما علاقتي بالطفل والحقيبة والكلام الفارغ. يلعن أبو الطفل وأمه و الحقيبة."
"ثمّ لمَ تحمل حقيبة وهي في رحلة داخل البلد؟ نحن نسافر إلى الخارج ولا نحمل معنا حقائب!"
"هل تزوجت بنت العاهرة، لتنجب طفلاً يجعلني فحماً في مثل اللعنة التي أنا فيها؟"
"اللعنة.. هي ضاجعت ابن الكلب لمدة تسعة أشهر. وأنا سأحمل لها طفلها لتُنزل هي الحقيبة."
"بل. ماذا لو كانت تلك المرأة تحمل حقيبتين مثلاً؟ ربما سمتني زوجاً لها قائلة: إمسك ابنك يا رجّال!!"
نحن أكثر البلدان إنتاجاً للأحلام، و أقلها استهلاكاً. فكائن ما بين النهرين مخلوق حالم. عقله مُركّب على هيئة خزائن الثياب. و لكن لتعليق الأحلام وطويها وترتيبها ومنع الغبار من الوصول إليها.
لكن تلك الخزانة، سرعان ما تتفلش من كثرة ما تراكم فيها من ثياب. نتيجة للتناسل و قلة المساحة وطول الانتظار. ونسل السلالة التاريخية من الأحلام، لم يحقّق نصراً. فسقطت أرضاً كثمار متعفنة.
كنت تعتقد بوجود أحلام لا يطالها الصدأ أو الموت. لكنك الآن، ترى بأن العصفور الذي لا يطير، سيتعفن في عشّه، مثله مثل الهواء، عندما يصبح راكداً لا يثير إلا الاختناق.
كانت البناية الشاهقة مغطاة بالثلوج. وربما هي الوحيدة التي كانت مُعلقة بالأفق آنذاك. ولم يكن ليظهر منها غير تلك المصابيح المهشمة التي تقذف ذلك الشخص المار تحتها بالصراخ الجاف.
(2)
كان صباح المدينة التي وصلها الماوردي صباحاً متجهماً كوجه شخص خارج لتوه من مسلخ لذبح الحيوانات. فالشتاء يمشي على قفاه في الشوارع. والبرودة مؤثرة لأنها تبثّ الهواء في الرئة على هيئة نشارة من الألمنيوم. فيما الناس كتل متحركة، لا يمكن الكشف عن هوياتها من كثرة الأغطية التي تلتف فيها الوجوه و الأجساد.
"أين أنتَ الآن أيها المُهرّب الدولي؟"
قالها الماوردي وهو يحث الخطى نحو ذلك الزقاق التي أخذت هندستها شكل الأمعاء الدقيقة من المدينة.
- حتماً. سيكون غارقاً في تخته الوثير، وهو ينحت في بقرته السمينة قبل الخروج للعمل!
- كلا. فعادة المهربين ليست هكذا. إنهم ينامون خارج بيوتهم من أجل الطوارىء.
- إخرس يا ماوردي. فأنتَ لا تفقه شيئاً. فقد يكون عنوان المهرب خطأً. أو قد يكون انتقل إلى منزل جديد. أو قد يكون مطارداً من قبل مفارز الاستخبارات. لكثرة ما هرب من بشر إلى خارج الحدود. أو قد تكون زوجته قد قتلته للاستئثار بأمواله.
"اللعنة على حظك يا ماوردي". قالها وهو يضغط بإصبعه على زر الجرس.
بعد لحظات.. انشق الباب عن فتاة في العشرين من العمر وهي ترتدي قميص نوم أحمر أو خمرياً. المهم أنه بلون الكاجب، سرعان ما سحبته من يده قبل أي سؤال، وأدخلته غرفة الضيوف، الأمر الذي أربك الماوردي وأعاده إلى حالة الكاجب التي داهمته البارحة في القطار.
فتزوبع قلبه من هذا التصرف الفجائي الذي لم يحسب له حساباً.
"أهو بيت المُهرّب حقاً؟ أهي ابنته؟ أخته؟ أم من؟ وأين هو بعد انقضاء ساعة من الانتظار وحيداً في غرفة الضيوف؟"
- أهلاً. حيته الفتاة و قدمت له القهوة مع ابتسامة لا غبار عليها. قد يتأخر زوجي بالوصول إلى البيت بعض الشيء، و لكن لا تقلق فكل شيء سيكون على ما يرام. اعتبر نفسك في بيتك. خذ حريتك في التصرف بكل شيء.
- و لكن يا سيدتي..
- لا تكمل الحديث. فنحن نعرف عنك كل شيء، فالشخص الذي سلّمكَ عنوان بيتنا، لم يبخل علينا بالمعلومات. اسمع. أنتَ تخدم بلدك بالهروب من الفاشية. و نحن نخدم بلدنا بتهريبكم منها. هذه نظريتنا التي نروج لها: نُفرغ البلد من الحطب. بعد ذلك لتُشعل الديكتاتورية النار في ثيابها.
- هذه نظرية فاخرة...
- أرجوك. الكلام لا يناسب وضعك النفسي الآن. قم معي لأدلك إلى الحمام، فالدوش الساخن قد يروض مخاوفك، ويجعل منك رجلاً صالحاً. هيا!
دخل الماوردي الحمام. وعندما استلقى في البانيو الأزرق وأدار مفتاح الدوش، شعر بتدفق وثقل المياه على رأسه وكأنها نفط خام. حاول أن يصرخ لكي يزيح الجبال التي تستقر على صدره، لكنه عجز عن تحريك قطعة الصابون من مكانها.
- ما الذي يحدث بربّ السماء؟
قالها الماوردي قبل أن يسقطه النوم في البانيو، بفعل حبة المنوم التي وضعت له في القهوة، كأسلوب للقضاء على الخوف والتوتر العصبي العالي الذي كان يسيطر على كيانه! بعدها.. لينقل إلى السرير الخاص بلا حراك.
عند حلول الساعة الثامنة مساءً، دخلت سيدة المنزل غرفة نومها. أنارت الضوء متوجهة نحو السرير الخرافي الكبير الذي يحتل مساحة كبيرة من المكان، وربما أقل بقليل من المساحة التي يحتلها العطر في الغرفة الملوكية.
"إنه النائم، وقد حلّت عليه اليقظة لتناول العشاء مع الضيوف في الصالة المخصصة لمثل هذه الأغراض؟"
استفاق الماوردي بمجرد انتشار الضوء في الغرفة. فوجد جسده النحيل بين أغطية حريرية و شراشف و مخدات، تبرق كلها بلون البحر. أما جسده، فقد وضع في دشداشة بيضاء فضفاضة، وبلا ثياب داخلية.
"اللعنة عليك يا ماوردي. من جاء بك من الحمام إلى هذه الجنة؟"
"ومن وضع جسدك العاري داخل هذا الكيس الحريري الأبيض؟"
تدفقت الأسئلة كما الدماء الساخنة إلى جمجمته. إلا أن سيدة المنزل، سرعان ما انتزعته من السرير. فمشطت له شعره أمام المرايا التي تتلألأ عليها صورة السرير من جميع الاتجاهات.
بعدها فتحت إحدى الخزائن المحفورة في الجدار، لتتناول منه وشاحاً أحمر اللون، وضعته على عنقه في شكل ربطة. وبعد الانتهاء من مراسيم الهندسة.. دخلت سيدة المنزل قاعة الطعام، وهي تمسك بالماوردي من يده على طريقة الكونتيسات، فنهضت نسوة خمس من مقاعدهن لتحيته.
كانت الصالة حارة. النساء بفساتين من الموسلين الأسود الذي تتطاير من خلاله الأنوثة المفزعة. والمقاعد من الكراسي المشغولة بالمخمل المائل إلى اللون البنفسجي. أما الجدران الأربعة، فقد غطتها الستائر السميكة من كل مكان، عدا الجهة التي يقع فيها موقد التدفئة الحطبي الذي يستقر فوقه تمثال من العاج الأسود لتمساح ضخم.
"أين أنت يا ماوردي؟ وما الذي يحدث لك من خرافات في هذا المنزل؟"
"أنتَ في الفردوس يا ماوردي. فلمَ تصف بلاد العُلجُوم بالجحيم؟"
"هذه النساء يكذبنك. وهذه المائدة تكذبك. وهذا البطر والفنتازيا لا تجعل منك كذاباً وحسب، بل أفاقاً. ولماذا تحاول الفرار من النعيم الذي أمامك؟ هل سيكون المنفى أعظم مما أنت وفيه يا أبن...؟"
جلس الماوردي إلى الطاولة في الصدارة. كان كرسيه مختلفاً عن بقية المقاعد. من خشب الزان المزخرف بالصدف. له يدان، وقد تم تنجيده بجلد نمر. فيما جلست سيدة المنزل إلى يساره، وهي ترتدي فستاناً حريرياً أبيض، نهايته السفلى مكشكشة. فيما كانت نهود النساء تتلألأ كمصابيح الفنارات خلف الثياب. أما شفاههن، فشلالات من عصير الكرز.
"ماذا ستأكل أولاً يا ماوردي: البط المحشو أم النساء المحشوات بالأنوثة الطاغية والرغبات التي تفوح من بقاع أجسادهن كالياسمين؟"
أحس الماوردي بأن دماغه يكاد يسقط أمامه على الطاولة ككتلة من نار. ودون شعور منه، امتدت يده لتلتقط قنينة من العرق الزحلاوي. فتحها و كرع منها الربع مباشرة. أحست النساء بأن شيئاً ما حطم وقار الجلسة. وقد جلب ذلك لهن بعض الرواق و البهجة. كأس من العرق يكسر عفة الصمت. فما الذي يكسره لتر منه؟ قال ذلك في نفسه، وهو يستعرض مقاطعات الجمال التي أمامه.
و بدأت كؤوس الخمر دورتها الأولى على الجميع. هذه أفضل طريقة.
"وبالخمر.. نستطيع أن نحافظ على قطع غيار العقل، قبل أن يتم استهلاكها بأفكار الجملة مبكراً."
"ولكنه مضر بالصحة يا ماوردي."
" ومن قال بأننا عبارة مثبته في قاموس صحة بلاد العلجوم أصلاً!!"
قال ذلك الماوردي لإثارة ردود أفعال النساء. لأنه كان يحاول أن يشق بثرثرته غلاف العالم الذي هو فيه الآن فمع تدفق العرق والأغاني والحرارة التي يرسلها الموقد إلى داخله مضافاً إلى ما في روحه من فواجع وأحزان. جعلت منه أشبه بسمكة في أكواريوم مليء بالشامبو. وها هو يريد القفز لالتقاط هواء العالم الآن. شعر بالاختناق. فنهض نحو الموقد محاولاً إبعاد رزمة من الحطب عن النار. فقامت سيدة المنزل في أثره لتراه يفعل ذلك و عيناه مشبعتان بالدموع.
- أهو الحطب أم النار؟ قالت سيدة المنزل وهي تحدق في عينيه مشجعة. أجابها الماوردي
- فقط من أجل إبعاد الحطب لتخفّ الحرارة قليلاً.
- لكن النار ستنطفئ.
- وسنفقد الحرارة.. أليس كذلك؟ قال الماوردي.
- كلاهما لكليهما. ردت السيدة، وهي تدفع برزمة الحطب إلى داخل الموقد.
عاد الماوردي إلى مكانه وأشعل غليونه ذائباًً في صوت أغنية فلكلورية كانت تنبعث من جهاز التسجيل. كان يشعر بأن الأغاني الجميلة تتحول في بعض الأوقات إلى ما يشبه المحاريث التي تستعمل لقلب التربة. وها هي تفعل فيه ذلك في أراضيه تماماً.
"لا مفرّ من المحاريث والعجلات والكاجب. هل يحتاج الهروب من الموت لكل هذا الذي يحصل لك يا ماوردي؟ ثم إلى أين ستفرّ والمُهرّبٌ غائب عن بيته حتى هذه الساعة التي قاربت منتصف الليل؟ فهل هرب هو الآخر؟ قالها لنفسه وهو يبتسم. وأضاف:
أين عواطفك إزاء النسوة. والتي كانت أشبه بالزلازل؟ أنتَ الذي دخلت تاريخهن على يد تلك الخيّاطة الجميلة. فعلّمتكَ الجنس، يوم لم تكن قد بلغت الثالثة عشر من العمر؟ هل مات كل شيء في قلبك، وصرت لا تبحث إلا عن الملاجئ والأقبية ودروب الهروب؟ لا تقل ليس هذا هو الوقت المناسب. فيوم للهرس تحت عجلات الأمن. و يوم آخر للإنهراس في حبّ النساء يا ماوردي."
قطعت سيدة المنزل على الماوردي أفكاره التي ذهبت به بعيداً. عندما دعته لأن ينزع الوشاح عن رقبته ويلقيه لنار الموقد. وعندما حاول الاعتراض على مثل هذا الأمر، قالت له السيدات:
"إنها تقاليد المنزل التي لا مناص منها.!"
"أنتَ في الفردوس يا ماوردي. فلمَ تصف بلاد العُلجُوم بالجحيم؟"
وفهم الماوردي فيما بعد اللغز. فالوشاح يقدم هنا كقربان للنار. أما هو فسيقدم كقربان لنيران أخرى.. ربما لسيدة المنزل!
"أجل.. إنها النار. فلا تكن في ضيق من أمرك. فاترك الحبل على الغارب يا ماوردي، وليحدث ما يحدث. اعتبر نفسك ميتاً في حادثة سقوط طائرة في المحيط الأطلسي. أو شهيداً في الحرب العالمية الثانية أو فيتنام. قل إن أمي قد أجهضتني وأنا في الشهر الأول. قل إن نمراً كهذا الذي تجلس على جلده المسلوخ، قد طبخ لحمك بين أسنانه وأنتَ في رحلة سفاري في تنزانيا أو موزمبيق. اعتبر أن سور الصين قد وقع على رأسك وهرسه كرأس الباذنجان. قل عن موتكَ أي شيء، وخلّصني يا ماوردي. فلن يكتب أحد سيرتك الذاتية. فمثلما نُفقت أرواح الآخرين، ستلفظ أنفاسك أنتَ ولو كنت في الأبراج المشيّدة."
نهضت النسوة الخمس من مقاعدهن باتجاه الماوردي. أربعة منهن حملنه وهو على كرسيه كالإمبراطور. فيما حملت الخامسة صينية من الفضة عليها مقص ومنديل أبيض. وتوجه الموكب نحو مكان مجاور لغرفة النوم.
إنها "غرفة النزهة"، كما قالت ذلك سيدة المنزل، وهي ترحب بالضيف الماوردي الذي ظل متسمراً على كرسيه كالتمثال.
أخرجت إحدى السيدات علبة معدنية صغيرة من جارور كان يقع في زاوية الغرفة، ثم قامت بنزع الغطاء عنها، ثم دلقت بمحتوياته على ثوب الماوردي قائلة له بصوت فيه شيء من التهدج:
"هذا حبر الكتابة. ونحن نريد حبرك؟"
خيم الذهول على وجه الماوردي. "ما هذا الجنون الذي يحدث؟"
إلا أن سيدة المنزل، تناولت المقص من الصينية الفضية، وشرعت بقص الثوب الأبيض للضيف. من الأسفل إلى أعلى الزِيْق. وعندما تم ذلك، سارعت النساء إلى خلعه نهائياً.. لتظهر بعد ذلك جميع أراضي الماوردي عارية، كما لو أنها صحارى يبتلعها الصمت و الخوف.
"حان وقت الأجل يا ماوردي. فسوف تُقطع إرباً إربا كالثور في هذه المؤامرة الدنيئة، كما قٌطعت رقاب الكثير من الأمراء في قصور الكونتيسات. ألسن هنّ من طراز تلك النسوة ومن فصيلتهن؟!"
"كلا.فلا بدّ من أن تحتفظ برباطة جأشك. فهذه الطقوس، ليست أكثر من صور تتذكرها لأبطال من تلك القرون."
"ما عليك الاستسلام للنساء. فهن المكائد بعينها. فقد يقطعن جسمك عضواً تلو الأخر. وعندما ستستفسر عن معنى ذلك، سيجبن: من أجل تسهيل عملية تهريبه عبر الحدود.!"
"طيب. المهم أن تصل إلى هناك، فقد تجد من يجمع لك جسدك مرة أخرى."
"كل شيء يهون يا ماوردي. المهم أن تعبر الحدود.
"و ما أدراك.. فقد تقع في حبك واحدة من نساء بلدان ما وراء الحدود.. فما الذي ستفعله آنذاك؟"
"بسيطة. قل لها بأنك من المنتمين إلى جمعيات الحب العذري."
"لماذا كثرة التفكير يا ماوردي. فقد تصبح هناك نجماً من النجوم التي تفتخر بها لجان الدفاع عن حقوق الإنسان وما شابهها. وتكون بذلك قد نلت الفرق."
-أنهض يا ماوردي. قالت سيدة المنزل.
-أنهض ولمَ لا. أجاب الماوردي وهو يحس بتحول ساقيه إلى قصب جاف.
-بماذا تشعر يا ماوردي الآن. هل أنت خائف؟ اقتربت منه امرأة وهي تضع أصابعها في شعره.
- الماوردي لا يخاف حتى وإن تحول جسده إلى لحم مفروم.
- ولمَ الفرم والقطع يا ماوردي. نحن لا نريد أن نفعل شيئاً من هذا القبيل.
قالت له سيدة المنزل وهي تبتسم تلك الابتسامة التي لا غبار عليها. فنحن رهائنك. فلا تفكر بعكس ذلك.
- وما هذا الذي يحدث لي هنا بحق السماء؟ قال ذلك الماوردي بصوت مختنق، والدموع تتقافز من عينيه ككرات البلياردو.
- لا شيء يا ماوردي، إنها الفرجة فقط فأنت في مدينة العسكر العريقة. كل الرجال في واجب الخدمة. وهم بخلاء علينا يا ماوردي إلى حدود أنهم لا ينامون مع نساءهم إلا في المناسبات ولا يأكلون إلا من القصعة. فقل ماذا تفعل نساء مثلنّا، وهنّ في مثل هذا الوضع من الشباب والجمال؟
سمع الماوردي ذلك من سيدة المنزل، وكأنها سفينة تجهش بالبكاء. وبدأ يستعيد شجاعته بالتدريج.
" أهنّ يخدعنني بإسناد دور البطولة لي في هذا المنزل اللعين؟ أم ما سمعت من كلام، هو هراء بهراء، وسيكون القادم أعظم؟"
" ولكن.. هذه السيدة متألمة حقاً. امرأة تلتهم النيران جسدها وأنفاسها وثيابها. حتى أن نحيباً خافتاً ينبعث من خلاياها ياللهول .
تقدمت النسوة الأخريات خطوات من الماوردي، فشكّلن دائرة حوله، هو نقطة قطرها.
" يا ربّ.. حتماً سيأتي الرجل المُهرّب ويقتلني شر قتلة"
" كلا. فربما يكون هو متعلقاً بعشيقته، ويحاول التخلص من زوجته وزمرتها. آنذاك سأقنعه بضرورة تهريب النساء معي. سأعده بالكثير من الدولارات، عندما أصل إلى هناك. فالدولارات في العالم الخارجي كأشجار اليوكالبتوس. سألتقط الكثير من أوراقها. وحتماً.. سيقتنع الرجل و يقوم بشحننا سوية في سيارات تهريب الأغنام و الأسلحة و صناديق الشاي والسكائر الأجنبية. بعدها سأخبر أمي بأنني سأتزوج من إحداهن.
أجل. سأكتب لها ذلك في رسالة ستصلها وعلى غلافها طابع أجنبي عليه صورة أرنب أو سمكة. سوف توافق أمي على طلبي حتماً. بعد أن تطوف على بيوت الجيران لمناكدة بعض بناتهم اللاتي أعرفهن. أجل ستقول أمي لهن، بأن ابنها أصبح يحكي بالأجنبي. وقد أصبح زوجاً لامرأة من الكريستال. ولن أنسى أن أخبرها أيضاً، عن كتبي التي صدرت في الخارج، و كيف لاقت الكثير من الرواج، وأن ابنها أصبح شهيراً أكثر من رامبو وعادل إمام".
- ماذا قررت يا ماوردي؟ سألت السيدة.
- أن نواصل الشرب يا نساء السماء. رد الماوردي بسرعة البرق، وهو يلتهب جنوناً.
خلعت النسوة فساتينهن، بعد أن سرت النيران في رؤوس الشموع الوردية التي كانت تقوم على الطاولة المستديرة، فتحولت غرفة النزهة إلى مكان يحلم بدخوله القياصرة. وعندما أخذت النسوة مواضعهن، كل واحدة على مقعد مكسو بالفراء، كانت السيدة، هي الوحيدة التي حافظت على بقاء نهديها كشلالين في غلافيهما، دون أن تترك الفرصة لعينيّ كي تبصرا مساقط أمواجهما التي بدأ طغيانها ينتشر في داخلي.
" ألمْ أقل لك يا ماوردي أن في الجمال قوة تدميرية لا تتحملها أعصابك؟ وأنك، مثلما سال منك اللعاب تشوقاً ولهفة على البنات في الماضي، سيُسيل دمكَ وروحكَ ودماغكَ الآن. ست نساء وأنتَ. كأنهن أيام أسبوع لا ينفصل أحدها عن الآخر، حتى وإن أشعلت الحرائق في التاريخ."
- يبدو أنك قد أُشبعت نوماً يا ماوردي. فانهض. لقد قاربت الساعة الثالثة بعد الظهر. همست سيدة المنزل، في أذنه وهي تراقب عينيه نصف المفتوحتين بين أغطية السرير البحرية.
- ما الذي جرى بربّ السماء؟ سألها الماوردي، وكأنه يوجه ذلك السؤال إلى المرايا التي تنعكس فيها صورته ممزوجة مع الجسد العاري لسيدة المنزل التي تمددت إلى جانبه خارج الأغطية.
- إنها الساعة الثالثة حقاً. وفي هذا المنزل. منْ أعادني إلى هنا، أنا الذي اجتزت الحدود الدولية ليلة الأمس؟ صرخ الماوردي وهو يعود إلى سابق حالته النفسية من اليوم الفائت.
- لم تجتز الحدود الدولية بعد. أنتَ اجتزت حدودنا يا ماوردي فقط. قالتها السيدة وهي تحاول الإبقاء على الماوردي في التخت، لتعيد الطمأنينة إلى قلبه الخابط.
- لا عليك. أريد الخروج من هنا فوراً. سأعبر الحدود بنفسي، ودون عون زوجك الغائب اللامبالي.
- اهدأ يا ماوردي. فستكون خارج الحدود بعد أيام. هذا آخر ما عندي لأقوله. فقد نحتاج بعض الوقت لإنجاح الترتيبات اللازمة لترحيلك من هنا.
أسمعته سيدة المنزل ذلك وهي تغادر السرير نحو خزانة الملابس.
يا للمصير الأسود الذي ينتظرك يا ماوردي. ها أنت معزول عن العالم الخارجي بين حيطان المنزل. في حين يبحث عنك الجميع: الرجال القساة والمارة والشرطة وباعة الجرائد والمجلات والأصدقاء في مقاهي الشرب والثقافة وبائع السكائر والمكوجي ونادل المطعم وموزع البريد وصديقتك السمراء التي ما تزال تحلم بوضع يديها كالسوار حول عنقك. بل وربما يسأل عنك حتى أصدقاؤك من الموتى أو المعتقلين في تلك الأقبية السحيقة.
أجل يا ماوردي.. الجميع يسأل عنك في الخارج. بينما أنت وبين نساء لا تعرف عنهن شيئأً. ولا كيف سيفعلن بك في هذه الإقامة التي لم تخترها. هل هنّ معذبات حقاً يا ماوردي؟ وما علاقتك أنت بهنّ؟ هل سيدفع بك زوجها المُهرب إلى خارج الحدود، أم أنكَ ستقع في قبضته متلبساً بمخدع الخيانة الزوجية، فيذهب رأسك بساطوره العملاق الطويل، لتتحول إلى نفاية في نهاية الأمر؟
نهض الماوردي من السرير. ارتدى منامة وخرج من غرفة النوم. كان الصمت يضرب المنزل. فلم يكن من أحد هناك سوى سيدة المنزل التي جلست إلى جانب جهاز التلفون، وكأنها تنتظر خبراً مفجعاً تتوقعه. وما أن رأت السيدةُ الماوردي، حتى رسمت له ابتسامة جافة على شفتيها لم يستغرب. فتقدم منها وكشكش شعرها بأصابعه. أمسكت له يده النحيلة المرتجفة، لتضع في أحد أصابعه خاتماً وهي تقول: "إنه للذكرى."
ومضيفة: "كانت قصائدك رائعة الليلة الماضية. وقد حركت فينا الزلازل يا ماوردي".
وأثناء ما كانت هي تحرك جهاز التسجيل لتبعث أغنية لفيروز. يرن فجأة جرس الهاتف ويقطع الأغنية. تتناول السماعة وتتحدث بخفوت. فيما راح الماوردي يقرأ ما قد يطرأ على وجه السيدة من تفاصيل.
أعادت السيدةُ السماعة إلى مكانها. وتطلعت إلى وجه الماوردي، وسرعان ما أجهشت بالبكاء.
" يا إلهي. لقد بصقت حياتك يا ماوردي. فيبدو أن الأخبار سيئة. أين ستفر من هذا المكان الملعون ومن هذه المرأة اللعينة التي رمت بلحمك للضباع. كم قرأت من الكتب التي تحدثت عن مؤامرات النساء. وها أنتَ في الطريق إلى دائرة الأمن. أي فرع؟ الله أعلم."
فهناك يا ماوردي ستعترف بكل شيء. حتى أحذيتك ستعترف. ولو لم تفعل ذلك، فستُعصر حتى ينفر الدم من جلدها. ثيابك هذه، ستتحول ورقاً للاعتراف. ستقول لهم أنني أمي لا أجيد القراءة والكتابة. عندها سيقولون لك: طيب! سنعلمك ذلك بسرعة بواسطة الأستاذ التيار الكهربائي عبر دماغك. وآنذاك يا ماوردي ستتقن كل اللغات بسرعة البرق. فالمهم أن تعترف. وتكتب حتى ولو بالخط المسماري. فالحكومة تعرف كل شيء عنك: كم خطوة قطعت قدماك منذ ولادتك وحتى الآن. وكم قصيدة من قصائد الضد في رأسك. وكم قميصاً ارتديت. ومع من نمت من البنات. ألمْ تدخن أنتَ سكائر"سومر" طيب. الحكومة ستعرف ذلك من لون القطران الذي يغلف أسنانك. فأنتَ من حاول اغتيال الريس ونائبه. وأنتَ من تحرّش بزوجة مدير المخابرات وأنت وأنت وأنت... أجل ستعترف بكل هذا وأكثر يا ماوردي. فأنتَ عميل كبير لدولة أجنبية. وأنت من يطبع ويوزع منشورات المعارضة. وأنت من يدبّر حوادث العنف و التفجيرات. وأنت من اغتال فلان وعلان. وأنت من يدير شبكة تزوير الجوازات والوثائق الرسمية. بل , أنت أيضاً من يهرّب الناس عبر الحدود يا ماوردي. تقبض بالعملة الصعبة وتساهم بدفع نفقات مصاريف الأحزاب والمنظمات المعادية. ثم، ما المانع الذي يحول دون اعترافك بكل الجرائم التي سيلصقونها بك يا ماوردي؟ فربما سيصدقونك. فتخرج معافى كما دخلت. بل و يطلبون منك العذر والسماح عن هذا الخطأ. آنذاك، يحقّ لك توبيخهم. بل لطم وجوههم بالصفعات إذا ما رغبت. ولكن هل سيتسنى لك ذلك يا ماوردي؟ وهل ثمة من دخل تلك السجون، وخرج معافى؟ سيطحنونك كالسجق بالفلفل الهندي الأحمر. إلى أن يصرخ كل عضو داخل الكيس قائلاً: أنا سأعترف أولاً.
هل تتذكر كيس الخيش الذي سيضعون فيه جسدك مع مجموعة من القطط البريّة المتوحشة.. ويقومون بركلها بواسطة أحذيتهم السمية وسياطهم البلاستيكية الغليظة؟
أجل يا ماوردي.. سيضعون أمام فمك سطلاً واسعاً وعميقاً، كي تتقيأ فيه جنسك البشري وثقافتك وأحذيتك ودماغك أخيرأً. كل تلك المتقيئات، ستطفو أمامك في السطل. وقبل أن تنتهي من الاعتراف يا ماوردي، يجيئون بحبيبتك. أمك، أختك، ينزعون عنها الثياب ثم ... أمام عينيك حتى ينتفخ رحمها بألف طفل في الليلة الواحدة . أما إذا رغب القضاة الذين يجلسون أمامك في العتمة، دون أن ترى وجه أحد منهم. فلن يدعونك تتقيأ دماغك بسرعة. فسيطلبون من أحد جلاديهم بإجراء اللازم. هل تعرف جيداً يا ماوردي ماذا يعني"إجراء اللازم" هناك؟
سيفتحون شقاً في صدرك . يضعون فيه بعض الحشرات تحت الجلد، ثم يعيدون خياطة الجرح. فما ستفعل آنذاك ..ويداك وقدماك مربوطة بحلقات الحديد في الجدار ؟كيف تريد الحرية يا ماوردي .بسعر المكنسة أم بسعر الثوم؟
- ستغادرنا الليلة ياماوردي .جملة غامضة قالتها له السيدة وهي تعانقه وتنتحب .
- إلى حفلة السلخ يا أبنة ....؟لم تدع الماوردي يكمل .فاستطردت:
- كلا ياماوردي .بل لاجتياز الحدود.
مادت أرض الصالون تحت قدمي الماوردي ،وهو يتصببّ عرقاً. وفجأة حمل سيدة المنزل بين ذراعيه وكاد يطير بها كالنسر العملاق. فهذه المرأة رائعة وطيبة .لم تكن كما كان يظن بها من دقائق. إمرأة لا تريد له شراً. وسوف لن تقوم بتمكين الحكومة من جعله نفاية. كان الماوردي يشعر بتطاير النيران من جسده.
" ربما هي الصاعقة التي سوف تأكلني نهائياً قبل الرحيل."
هكذا كان يردد الماوردي في نفسه. وهو يهتزّ ويغوص في موجة من الزبدّ على أريكة الصالون . وكأن سيدة المنزل بفمها، تحاول سحبّ روحه من تلك الأعماق السحيقة. كان يفعل ويتذكر ويقول مردداً
الغبيّات كل ما تعلمنه من الفنون الجميلة رسم ونحت الصور والتماثيل العارية.
- هل ستتذكرني يا ماوردي هناك؟ أم ستبلغ بك الحماقة إلى حد وصفي بالمرأة العاهرة التي قضيت معها يوماً كامل الجنون، بين الرعب والحب؟ امرأة لم تكن تعرفها أبداً تؤويك في منزلها بعيداً عن عيون الرجال القساة، تحبك ليوم ونصف، ثم تقول لك وداعاً بعد ذلك!
ارتطمت كلمات السيدة في رأس الماوردي ارتطام الموج على حافة صخرية لخليج ضيق. فقد كانت تحمل بين طياتها كل ما كان يشغل باله، بعدما وجد نفسه أسيراًً في مثل هذا الوضع الغرائبي القريب من عالم الفنتازيا الدراماتيكية. فلا وقت للأسئلة هنا، كما يعتقد الماوردي، لأنها قد تفسد كل شيء في المكان الذي هو فيه. وربما لن ترضخ السيدة للكشف عن العالم السري للمنزل. فيما لو كان الماوردي، حاول التنقيب عن الحقائق. فالبيوت أسرار. ولن تقوض السيدة ولا كذلك النسوة الأخريات اللعبة التي تجري هنا. فمثلما دخلت بصمت يا ماوردي.. اخرج بصمت. فليس هذا المنزل هو ما تهتم به. ولو كان الشيطان هو الذي سيحملك على ظهره لاجتياز الحدود، فستركب ظهره لترحل. قل ذلك وكل شيء إذا رغبت. وليحل الخرس على كل قامتك الآن. اخرس. فأنت ما تزال تحتضن المرأة كالسور. ولم يأت المهرب أو الشيطان لنقل جسدك إلى الحدود. أنت هنا رفات يا ماوردي. وتحلّ عليك الشفقة، مثلما يفعل الناس الطيبون ذلك مع القطط الصغيرة المشردة تحت المطر.
فاجأ الماوردي نهوض السيدة من بين يديه لترتدي ثيابها.
- بالمناسبة.. هل تريد شراباً بارداً أم تتناول شيئاً من الطعام. ملتفتة إلى الماوردي.
- كلا أفضل القهوة. هل تسمحين لي بإعدادها؟
- و لكن لم تتناول الطعام منذ البارحة؟
- لا أستطيع الآن. شكرأً.
وفيما كانت السيدة تعد القهوة في المطبخ، سمع الماوردي جرس الباب يدق. فسقط قلبه من الهلع. لكن السيدة أشارت له بإصبعها نحو غرفة النزهة، ليختبىء بها. وفعل ذلك فوراً. ومن خلا ل شقوق ستائر النافذة المطلة على الصالون، راح الماوردي يسترق النظر لمعرفة من القادم. هل اكتشفوا المخبأ و جاءوا للقبض عليك؟ للحظات كان هذا الاعتقاد ما يساوره. وعندما فتحت السيدة الباب، سرعان ما دخل شخص بملابس عسكرية، شاب لم يتجاوز من العمر عشرين عاماً، كما خمّن ذلك الماوردي. طفرَ قلب الماوردي إلى فمه.. وكاد يلفظه مع أنفاسه لولا أنه رأى السيدة تعانق الشخص وترحب به بلطف. فبدأت المخاوف تهدأ. بل تهبط مثل عداد سرعة السيارة عند التوقف. ولكن ربما يكون الشخص هو زوجها المُهرّب.. وإلا لما سمحت لنفسها أن تجلس أمامه وهي في هذا الثوب الشفاف الذي تتلألأ منه مفاتنها؟!
" غيّر شكوكك أيها الماوردي القذر. أنظر.. إنه يشرب معها فنجان قهوتك بدلاً منك يا ماوردي. أنظر.. إنها تنشغل عنه لتقرأ في الصحف التي جلبها إليها معه. حتماً السيدة مثقفة وشغوفة بالأخبار السياسية و الاقتصادية. وإلا لم تتركه وشأنه.. يفترس جسدها بنظراته، ثم يرتجف مثل تلك الارتجافة اللعينة. اسمع يا ماوردي: هذا المنزل غريب.
" طيب. عد بعد ساعة من الآن. وسأكون جاهزة!"
قبّلت السيدة الشاب وهي تودعه عند الباب الخارجي. لتدخل بعدها على الماوردي الذي كان غارقاً في مغطس من العرق الساخن.
" هل هي الغيرَة يا ماوردي؟ قالت له ذلك وهي تشده للجلوس فوق الأغطية المبعثرة على أرض الغرفة."
" إنه غلام زوجي في الثكنة. أليس وسيماً؟" وبدأت السيدة تضحك، وهي تداعب شفتي الماوردي بحزمة من شعرها الذي تمسكه بيدها."
" إنه مخلص لي. ويجن في حبي. تصور أنه ورث هذا المنزل عن والده، ليتركه لي ولصديقاتي في أوقات النزهة السرية التي نمارس فيها طقوسنا للترويح عن النفس. أنا أتركه يفعل ذلك دائماً. ولو كنت قد منحته جسدي، لكانت الأمور قد وصلت إلى نهايتها معه؟!!"
وماذا يفعل هذا الشاب؟
" إنه مرافق زوجي. يتجسس لي عليه. ويترصد لي أخباره طيلة أيام الأسبوع الذي يكون خلالها في المعسكر، عدا أيام العطل الرسمية طبعاً، والتي كثيراً ما يضمها الزوج إلى قائمة العمل.. فيعتذر عن الحضور إلى البيت. علماً بأن زوجي هو مدير المخابرات في المنطقة!"
وأضافت السيدة قائلة:
" اسمع. بعد ساعة سنكون معه في سيارة جيب تحمل رقماً عسكرياً. أنا سأعود إلى بيتي الواقع على الطريق، وأنت تغادر المدينة يا ماوردي لاجتياز الحدود. أقصد لمفارقتي."
قالتها وكأنها ستفقد آخر رجل على سطح الأرض.
يرن الجرس و يدخل الشاب الوسيم. فتقول له السيدة:
" هذا هو الشخص الذي حدثتك عنه. لقد وصل إلى هنا تواً. أريد الاعتناء به والحفاظ على حياته بأي ثمن. خذ هذه وثائقه فقد تحتاجها على الطريق."
تحدثت السيدة مع الشاب العسكري بلهجة حازمة. لنستقل نحن الثلاثة الجيب. ثم لتنطلق السيارة وهي تبتلع الطريق. و قبل الخروج من المدينة، وقف العسكري بسيارته، فودعت السيدة الماوردي بكلمات قليلة. لتدخل باب منزلها بعد ذلك و تختفي. ومن ثم لتنطلق الجيب من جديد بالصعود نحو الطرقات العالية بين الجبال.
أخذ الماوردي يتصفح جوانب الطريق على الرغم من صعوبة الرؤية في وقت مبكر من فبراير. لم تكن رؤية الأشياء بوضوح ممكنة، إلا أنه كان يشعر بمرارة تكاد أن تجعل من فمه باباً خشبياً. هل تكون هي آخر الساعات أيها الوطن. آه. ما أقسى أن أودعك , أنا مثل طير عل خطوط هواء تلتهب بينها النيران. أي تاريخ سنكتب عنك فيما وراء الحدود؟
بعد مضي ساعة، بدأ الزلزال ينخر في معدته.. إلا أن الماوردي كان يقول لا بأس. فمرض القرحة ليس أشد هلاكاً من الفراق الذي بدأت حرارته بالارتفاع قبل اجتياز الحدود.
تناول سائق الجيب كيساً من النايلون من حقيبة كانت خلف المقعد. وقال للماوردي:
" تفضل، إنه مخصص لك من السيدة. طعام سفر."
انفرجت أسارير الماوردي، حينما سمع ذلك من السائق. فتقاسما السندويشات بنهم سوية. فيما كانت السيارة تلتهم الطريق كحجرة ضخمة وسط الظلام. غنِّ يا ماوردي تلك الأغنية التي كثيراً ما أحببتها. حاول أن تكسر هذا الصمت وتنزع نفسك من الوحشة والأفكار المضنية التي تحفر رأسك.
كلا. لن أفعل ذلك الآن. قال ذلك الماوردي وهو ينظر إلى ساعته.
- كم بقي لك.. لنبلغ الحدود يا صديقي؟ سأله الماوردي.
- سنحتاج إلى ساعتين على أبعد تقدير. بعدها سيكون الأمر بخير.
- هل ثمة عقبات أمامنا؟
- نقطة تفتيش واحدة عسكرية على الطريق. أجابه السائق، مناولاً إياه مغلفاً ورقياً.
تناول الماوردي ذلك وفض المغلف على ضوء عداد السرعة الخافت. هذه هي أوراقك الثبوتية إذن؟ وهكذا يكون اسمك يا ماوردي الآن؟ كل شيء جديد: اسمك الشخصي والعائلي, تاريخ الميلاد, المهنة, مكان الولادة, السكن, فقط صورتك يا ماوردي، لم تتغير. أليس هذا هو ما ترغب به يا أحمق؟!
أن تنجو بنفسك وتترك الآخرين في أتون الجحيم؟ لن يتحقق لك هذا الشرف يا ماوردي. فأنت الآن على الطريق. تسبق الريح للقاء مصيرك الذي سينتهي في نقطة التفتيش القادمة. فصورك ستكون منشورة لدى كل المفارز والنقاط. واسمك على رأس القائمة. أجل اسمك في أول القائمة لأنه سهل وحروفه تشكّل أجمل مارش موسيقي يحبه الجنود:
" ماوردي.. ماوردي.. ماوردي."
بعد دقائق من العاصفة التي أكلت الماوردي وبصقت عظامه في الوديان السفلى. توقفت السيارة عند نقطة التفتيش العسكرية. كان يتفحص وجوه حراس نقطة التفتيش بنصف عين، وكأنه يتنفس غبار الأرض.
" الماوردي ليس هنا. الماوردي مات منذ قرون. الماوردي الذي تبحثون عنه سلّمته امرأة للسلطات، وقد اعترف بكل الجرائم القذرة التي ألصقت به. لذلك فالماوردي المتهم بالخيانة العظمى. لا مكان له داخل سيارة الجيب العسكرية المحترمة التي تقف أمامكم يا حراس البوابة الشمالية لبلد العلجوم." هكذا حدث الماوردي نفسه.
" خذوا يا أولاد الكلاب. إنها سكائر أجنبية لم تذوقوا طعمها من قبل!"
رمى السائق بعلب السكائر إليهم، وهم يبتسمون إليه. وانطلق بالسيارة مخلفاً وراءه حاجز مفرزة المخابرات العسكرية.
" إنهم عناصر لطفاء. ومن الأصدقاء الذي أقضي معهم خدمتي العسكرية عند سيدي ضابط الأمن".
لم يكن الماوردي مصدقاً لما سمعه من السائق الذي معه.
" لماذا لم تقل لي ذلك أيها الشاب؟"
سأله الماوردي، وهو يغلي من الحنق. فقد فكر بقذف جثة السائق من النافذة نحو الوديان السحيقة.
- لو كنت أعلم بكل هذا العز الذي تتمتع به، لما تخثر دمي خوفاً من مفرزة الأمن!
- إنها أوامر سيدتي!
- أوامر!! سأله الماوردي.
- لم يحدث شيء. فبعد نصف ساعة تقريباً، سنصل إلى هناك. وأكون بذلك قد بلغت رضى مولاتي. ثم لمَ أنت خائف يا سيد؟ هل حدث لك مكروه. أنا لا أعرف شيئاً عنكَ. بل ولا حتى اسمك. لقد أمرتني سيدتي أن آتي بك إلى هنا فقط. وهذا كل ما أفعله كما ترى. هل ثمة خطأ ارتكبته كما تعتقد؟
- كلا. إنس الموضوع. فما تقلقني هي السرعة بين الجبال. هكذا تلعثم الماوردي مضطرباً، وفكر بأن لا يطلع السائق على أية تفاصيل، عندما بلغه أنه لا يعرف شيئاً. ربما!
- هل تود سماع شيء من الراديو، أو أغنية من آلة التسجيل؟ سأله السائق دون أن ينظر إليه.
- ردّ الماوردي بالنفي.
أية أغان و أية رغبات لديك لسماع ذلك، وأنت تحت مدحلة الذعر. ربما بعد الحدود.، ستستمع إلى كل ما هو تافه من الحكي والغناء و الثرثرات. و ستقول بالطبع كل ما كان يقوله المغتربون في رسائلهم الموجهة إلى الأهل والأصدقاء:
" لقد أصبحنا نحب حتى طنين الذباب في الخارج. فالحنين في بلاد الغربة، ربما يبرر كل تفاهة نقترفها!!"
- وأنتَ. موجهاً كلامه إلى السائق: هل تحبّ الأغاني، أو سبق لك وأن مارست الغناء؟
قالها الماوردي لتقطيع الوقت. "شخصان لا يعرفان بعضهما بعضاً. ماذا تكون الأسئلة؟"
- ليس الغناء وحده، بل وهواية جمع الطوابع أيضأً. أجاب السائق مبتهجاً!
إذن. هذا الولد يحب السفر إلى الخارج. أليس كل من يمارس هواية جمع الطوابع، بنظرك يا ماوردي، لا بدّ وأن يكون من الحالمين بلفّ العالم. إذن يا ماوردي.. فربما ستعثر على هذا الغلام ذات يوم، وهو يتسكع في مدينة من مدن الخارج. كعازف قيثار على الرصيف أو كمدمن خمر أو مخدرات.
- ولديك رغبة بالسفر نحو الخارج.. أليس كذلك؟
- ليس قبل أن أنهي خدمتي العسكرية. فكل الجنود والضباط والمراتب لديها نفس الرغبة. نحن نتحدث عن ذلك يومياً في الثكنة. إلا أن الإفصاح عن موضوعات السفر للخارج ممنوع. لكن، ربما ستحقق كل شيْ لاحقاً. فرغبات الناس هي حقائق المستقبل.
قالها السائق وهو ينعطف بالجيب نحو شارع فرعي يتناثر على ضفتيه القليل من البيوت التي كأنها مشيّدة من الصخر، مشيراً بإصبعه: "هذا هو المكان." فهبطنا من السيارة ودخلنا. حانة صغيرة. يتوزع مقاعدها حوالي عشرين شخصاً. سحب السائق لي كرسياً من الخشب وقال: "تفضل. سأنادي العم."
من هؤلاء يا ماوردي؟ حانةٌ وفي آخر الدنيا! ربما هم الذين يصححون مسار الحياة، ليعيدوا الأرواح الهاربة إلى نصابها الطبيعي والفني. ولكن الليل هنا، يسيل كمادة الغراء الأسوداء